عمر موسى متهم
عدد الرسائل : 433 تاريخ التسجيل : 14/09/2008
| موضوع: خلجات قلب ثائر.. قصة قصيرة الثلاثاء نوفمبر 11, 2008 8:53 am | |
| خلجات قلب ثائر
كان الظلام يجثم في عينيه ، حينما كان يتسلل إلى القرية الجبلية ، وكان لفح البرد يصفع
وجهه بحدّة .وقطرات الماء تنسرب تحت ملابسه ، وأوراق الشجر تثب في عينيه ، وكلما ا انحدر به الجبل تملكه حذر وريبة ، فالحفر المتناثرة تغص بالماء ، والطرقات تتآكل
على مشارف المنحدرات السحيقة .
وبينما كان يشق ركام الليل ، إذ زلت قدمه من حيث لا يدري ، فانزلق في حفرة وطيئة .
تحسس ما حوله بتمعن ، فاطمأن بالا .. صعّد الزفرات المخنوقة ، وهمس بصوت خافت :
كهف الشيخ يوسف ، لا حول ولا قوة إلا بالله . تغيب الوجوه ، وتنقضي الأيام ، وتظلّ
الأرض أرضا . هاهي أنفاس الكهف تفعم أنفي فتوقظ ذاكرتي .
هذا الكهف الذي كنا نلجأ إليه أيام الحرب ، وما قدّر لي أن أعود إليه بعد ذلك .
مدّ يده الراجفة تتحسس جيوب أرديته البالية ، علّه يعثر على صندوق التبغ ، فغلقت بيده ورقة
سميكة ، تفحصها جيدا ، أشعل عود ثقاب . خطف نظرة عابرة فتبيّن أمر الورقة ، ضرب جبهته
بيده كأنه يستحث ذاكرته ، ومسح راحته بشره الأشعث ، ثم تمتم لنفسه : زوجتي سلمى .. أين
أنت الآن . أشعل عودا آخر . حدّق في الصورة مرة أخرى ، حاول أن يستنهض الذكريات ،
همس لنفسه وهو يتفرس ملامحه من خلال الصورة : تلك ابتسامتي الحانية تشّع من شفتيّ الدقيقتين
ولا تلبث أن تستقر في عينيّ العابثتين ، وهذه سلمى تلصق بي مثل قطة أليفة .
خصلات شعرها الكستنائي تتمرد على جبينها ، وابتسامتها الندية تغالب شفتيها القرمزيتين ،
وعيناها الخضراوان تنمان عن بهجة مرحة .
يتناهى إلى أذنه وحي يعبر السنين . يهتف به : لن أنساك .. سأظلّ لك حتى الرمق الأخير .
كان يهبط المنحدرات ، ورغبة ملحة تدفعه لفعل أي شيء ، تستبد به تلك الرغبة ، فيضغط قبضته
ويلوح بها في الهواء ، ثم يمضي خفيفا ، يطوي الشعاب الملتوية ، ويخوض الوادي السحيق .
ثم يتسلل عبر القنوات الضيقة ، فتغمره سحابة أمل دافئ . وتعبق بأنفه رائحة البلوط والشواء
تنبعث من البيوت التي تناثرت بأطراف القرية .
دلّف نحو الزقاق الذي يفضي إلى بيته العتيق ، مهد الصبا والذكرى .
نبضات قلبه تتسارع ، وأنفاسه لاهثة متواثبة ، وأطياف الذكرى تضطرب أمام
ناظريه . وماذا في جعبة الذكريات أحلى من بيته المتواضع البسيط ، فيه نشأ وترعرع وتنسم الحياة ، وفيه انبلج الحب منذ عرف سلمى .
وفيه أودع الذكريات منذ عام مضى .
كان في الهزيع الأخير من الليل ، حين أطبق جنود الاحتلال على المنزل ، أدرك
أنه سيعود إلى غياهب السجن ، ذلك السجن الذي ما أن يفلت منه حتى يرتد إليه
من جديد . لكنه حزم أمره وقرر أن يلوذ بالفرار .
سحب من سيجارته نفسا عميقا ، وحين كان يتسلق الجدار ، أحس وخزا يلسع
أعماقه ، تذكر المهمة التي أنيطت به ، لكنه سيلتقي سلمى ، ويقطف منها أشواقا
وحنينا ، صّعد الزفرات وتأفف : لربما تكون المرة الأخيرة .
سوف أعود إلى الرفاق قبل أن يأزف الموعد .
انزلق إلى فناء الدار ، توجس طريقه إلى البيت ، ذلك البيت الذي فاض بأحلى
الذكرى . فيه عرف سلمى ، وفيه شب الحب واشتعل الوجدان ، وفيه أثملته كؤوس
الهوى .
عدت إليك يا سلمى . سوف أحتضنك كطفل عادت إلى أمه أنفاس الحياة ، وأذيبك
في بحر وجدي علّنا نطفئ جذوة الحنين .
شعاع ضئيل يتسلل عبر الستائر ، يدنو من النافذة . يرهف السمع عله يشنف
أذنيه بأنفاس سلمى .
بغتة : يشعر وكأن قلبه تلاشى ، وأنفاسه تخمد .. ماذا يسمع ؟
تأوهات امرأة تعاني وطأة الغرام .
من سلبني بيتي وذكرياتي ؟ أين رحلت سلمى ، ومن تراه يقيم في منزلي ؟
أرهف السمع حذرا وجلا . يكاد أن يصرعه الشعور بالذعر والفزع .
إنها سلمى ، آهاتها الحرّى ، وتأوهاتها الماجنة .
أغمض عينيه وكأنه يحاول أن يتحرر مما هو فيه . يود لو أنه كان يحلم ، أن ينكر
ما تناهى إلى أذنه ، أن يتلاشى ، أو أن يتلاشى كل ما حوله .
قوة غامضة توقظ الأفاعي من سباتها .. ماذا تراه يفعل ؟
هل يكسر الباب ويحرق من في البيت ، أم تراه يندحر إلى ضفاف الهزيمة ذليلا مكسورا . تمالك نفسك أيها الرجل همس لنفسه .
تذكر الكوة الضيقة في أعلى الجدار ، تحسس ما حوله ، فعثر على صفيحة، اعتمد
عليها حتى أصبح في مستوى الكوة .
أحدّ ناظريه ، فلاحت له امرأة تلتف بغلالة حمراء ، تتوسد ذراع رجل ، كان ينكفئ
على وجهها ، ويرسل يده الأخرى في ثنايا جسدها .
ما تمنيت سواك يا سلمى ؟ همس الرجل
وأنا ما حلمت بغيرك يا سيد الرجال قالت تناغيه من خلال ضحكة مغناج .
صوت الرجل يستوطن ذاكرتي ، لكن ضبابا كثيفا يحول دون أن أستخرجه ،
إلى دائرة الضوء.
ينزلق بشفتيه على عنقها العاجيّ ، فتلقي برأسها خلف الوسادة ،
وينسكب شعرها كشلال ليل بهيم .
تنفث زفيرا تكتمت عليه تكتمت عليه شهوات أفعى ، وتشهق بأنفاس دفينة
تحررت من ركام الكبت والحرمان .
تطوقه بيدين راعشتين ، تضغط عليه بإحكام ، وترسل زفيرا لاهثا ،
ينغرز فم الرجل في صدرها ، وتنساب يده لتستقر حيث تكوير بطنها.
يرفع الرجل وجهه ، فيعرفه تماما .
يكتم صرخة كادت أن تنفلت : إنه هو .. المختار . وذاك سلاحه يتكئ على حافة
السرير .
ينزلق عن الصفيحة بصمت ، يهمس لنفسه ، النساء كالأوطان ، تدين لمن
ينتزعها .. لكن المختار من طينة أخرى ، يبيع الأوطان وينتزع النساء ،
عين الاحتلال ، ويده التي أجهضت بذور الثورة ، والتسوس الذي كسر جسر
الرجاء.
من زج بي في السجن سوى المختار ؟
كانت خلايا المقاومة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى ، والرجال يزج بها في غياهب
السجون . فينحسر الأمل ، ويعم الإحباط ، نكافح لرفع نير الاحتلال
وما علمنا أن المختار هو الاحتلال .
لن أنفذ المهمة همس لنفسه ،لن أقاتل جنديا وفي بيتي جحافل توطد أركان الاحتلال .
أطرق الرأس وأمعن فكره ، تحسس العبوات التي كانت تحيط به ، فضّ إحداها
وتنشق ما بها ، تماما كما توقع ، كانت مترعة بالكاز .
رفع العبوة حتى لامست الكوة ، سكب ما فيها بحذر شديد ، لم يشعرا به ،
فعواء الرياح يعلو ، والشهوة تعصف بهما .
كانت الستائر ومشجب الملابس ، والغرفة كلها تغرق بالكاز .
أشعل عود ثقاب وألقى به من خلال الكوة ، ثم أشعل عودا ثان وثالث ، حتى
اضطرمت النار واشتد سعيرها .
دب فيهما الذعر والفزع والاضطراب ، تراكضا باتجاه الباب ، لكن قبضته
كانت تتحكم به ،
أحس قوة شيطانية تدبّ في ساعديه ، كان المختار يدكّ الباب بقدميه وجسمه
ورأسه ، وسلمى تشد من أزره ، لكن الباب في قبضتي راسخ كالجدار,
حشرجة مخنوقة وصراخ مبتور يتخلله سعال متقطع ،
مختار .. افعل أي شئ ، سوف أموت
وأنا يا سلمى .. أشعر بالانهيار ردّ عليها من خلال نشيج متقطع .
تضطرم النار ، والدخان يتصاعد ، شعر بالنار كأنها تأكل الباب ، فيده تكاد أن
تحترق ، لكن قبضته ما تزال تحكم الباب .
أصوات ارتطام داخل الغرفة ، خيل له أن سلمى والمختار في الرمق الأخير
أحدهما يشد الآخر ، يتعانقان ..
عناق الموت
سكن الصراخ والنشيج والأنين .. حتى النار كأنها خمدت
وداعا يا سلمى قالها وطيف ابتسامة يغازل شفتيه ،
تذكرّ الموعد ، لم يأزف بعد ,
وثب نحو الشارع ، وانطلق يطوي الشعاب ، والمنحدرات السحيقة .
همس لنفسه ، بعد أن اتكأ على جذع شجرة هرمة ، وسحب نفسا عميقا من سيجارته
ونفث الدخان من خلال ابتسامة واثقة :
بالتأكيد ، أستطيع الآن .. أن أنفذ المهمة .
| |
|