منقوووول
بقلم محمد أسليم
يُظهر إحصاءٌ للمقاطع القرآنية الخاصة بالسحر أن هذه الممارسة تشكل موضوعة كثيرة التردد في القرآن:
انطلاقا من التفسيرات المقترحة لهذه الآيات سيتشكل أدب بكامله حول السحر. وقد اتخذ هذا الأدب نقطة انطلاق لتآليف حديثة تسعى إلى استخلاص حكم السحر في الإسلام[1]، مما يُظهر أن الخفي كان - ولازال - يشكل موضوع انشغال جدِّي من قِبل القرآن والفقهاء المسلمين على السواء. إذا كان الوقوف على دلالة هذا الانهمام وأسبابه يتطلبان عملا منفردا يتجاوز الحدود التي رسمناها للعمل الحالي، فإنه يمكن استخلاص ما يهم أسئلتنا مباشرة انطلاقا من نصين، هما الآية 102 من سورة البقرة، ثم سورة الفلق[2].
1.
الآيـة 102 من سورة البقـرة
عندما دعا الرسول يهود مكة إلى الإيمان برسالته ردوا عليه بأنهم كانوا على دين النبي سليمان، ولكن عندما قال لهم بأن مهمته كانت بالضبط هي تأكيد رسالة سليمان وإتمامها، أجابوه بأن سليمان لم يكن نبيا وإنما كان ساحرا، إذ قال بعض أحبارهم: «ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داوود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا!»[3]. آنذاك، جاءت كلمة الله لتحسم هذه المسألة، ولكن أيضا لتثير موضوعا لن يتوقف المفسرون عن النقاش حوله. تقول هذه الكلمة:
«واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان به من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاص ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون» (البقرة، 102).
وقد تمَّ ترجمتها إلى الفرنسية على النحو التالي[4]:
.إذا كان مضمون هذه الرسالة واضحا جدا بالنسبة للقارئ الأعجمي، فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لمفسري القرآن داخل اللغة العربية. ذلك أن تأويل الوحي الإسلامي يشكل موضوع اختلافات تصل إلى حد التعارض الكلي أحيانا لسبب مزدوج: طبيعة اللغة العربية نفسها، ثم تنوع الاستراتيجيات الممكنة لقراءة القرآن. ومع ذلك، يمكن القول بكيفية عامة إن المفسرين، لكي يحصلوا على معنى الآيات، يقومون بمسعى مزدوج: يجزئون النص أولا إلى وحدات تركيبية يحللونها لغويا، وبعد ذلك يستخرجون موضوعات؛ ينتقلون من تحليل تركيب النص إلى استخلاص دلالته باستدعاء أو استثمار معطيات من خارج النص، تتمثل أساسا في «مخزون» من الأساطير أو المعلومات (روايات أو أخبار). بعبارة أخرى، يتم تسخير التحليل التركيبي لتحديد وجهات للمعنى تختلف فيما بينها ما لم تتناقض. وإذا كان هذا المشكل يبدو غريبا في القرآن المترجم إلى لغة أخرى، فذلك لأن أي ترجمة لهذا النصّ لا يمكن أن تكون ما لم تنخرط مسبقا في اتجاه محدَّد من المعاني التي يمنحها النص، وإلا كانت الترجمة مستحلية.
أ. مشاكـل المعنـى:
لا نريد التطرق إلى هذا المشكل الذي يتطلب تحليلا دقيقا. وفي المقابل، نود الاحتفاظ من التقسيم المقام على نصنا بعنصرين اثنين: الوضعان الاعتباريان النحويان والصواتيان لعنصرين من مكوناته؛ يتعلق الأمر بالحرف «ما» وبكلمة «ملكين».
ب. معنـى «مـا»:
قام خلافٌ بين مفسري القرآن الكريم حول «ما» في جملة «وما أنزل على الملكين» التي ترجمت إلى الفرنسية على التوالي بـ:
- «et ce qu’on avait fait descendre, à Babylone, sur les deux Anges».
و:
- «et la science qui avait été donnée aux deux anges»,
خلافٌ أفضى إلى قيام مواقف عديدة، يمكن تصنيفها إلى موقفين:
فبحسب جماعة أولى من الفقهاء، يفيد حرفُ «ما» معنى «الذي» (وهنا أين تقع الترجمة الفرنسية)، وبالتالي، فالمقصودُ بقوله: «واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت» هو: «اتبع اليهود، في آن واحد، ما افتراه اليهود على ملك سليمان والعلم الذي أنزل على الملكين». وفي هذه الحالة سيكون السحر علما أنزله الله على الملكين، ومن ثمَّ سيكون مصدره قدسيا، إلهيا، ربانيا.
ولكن بحسب جماعة ثانية من الفقهاء، إن المكوِّن «ما» نفسَه، في النص الذي يعنينا، هو حرف يفيد معنى «لم» (وهنا أين تجد الترجمة الفرنسية نفسها مقصاة)، وبالتالي سيكون فحوى الجملة هو: «اتبعوا ما افترته الشياطين على ملك سليمان. يعلمون الناس السحر: ولم ينزل هذا العلم على الملكين»[7].
ج. اللام في «ملكيـن»
قام خلافٌ مماثلٌ حول مفردة «ملكين» في النص الذي يعنينا، إذ تمَّ التساؤل: أينبغي قراءة حرف «ل» في هذه الكلمة مفتوحا أم مكسورا؟، فانبثق عن ذلك موقفان. تبنى البعضُ (الجمهور) الموقف الأول، فقرأ الكلمة «مَلَكَين»، ليكون معناها بذلك هو «اثنين من الملائكة»، أي كائنين قدسيين (وهنا أين تقع ترجمته الفرنسية)؛ وتبنى البعض الآخر (ابن عباس وسعيد بن جبير) الموقف الثاني، فقرأ الكلمة نفسها «مَلِكَين»، ليكون معناها بذلك هو «سلطانين، أميرين»، وبالتالي رجلين أو بَشَرَين[8].
إن التأويلات الممنوحة للمكونين «ما» و«ملكين» لا تنتمي إلى نظام الاعتباط. في الواقع، كل وضع يقود إلى تبني موقف دقيق تجاه مجموعة من الأساطير والأخبار القابلة لتشكيل دعامات لفهم للنص فهما معينا. القول بأن «ما» اسم موصول وقراءة «ملكين» مَلَكَين هو تأكيدٌ لقصة سقوط اثنين من الملائكة، اسمهما هاروت وماروت، وزعمٌ بأن السحر ينحدر من أصل رباني. وعلى العكس، القول بأن «ما» حرف، وبوجوب قراءة «ملكين» «ملِكين»، هو تكذيبٌ للرواية السابقة، وبالتالي تبن لأطروحة انحدار السحر من أصل شيطاني.
وبذلك نجد أنفسنا إزاء أفقين للقراءة متعارضين، يقترحان نفسيهما لتفسير النص ذاته. يمكن التساؤل: أي اختيار يجب إجراؤه للحصول على المعنى الصحيح لما يهمنا؟ في الحقيقة، ليس هدفنا هو البحث عن المعنى «الحق» ولا الانخراط في السجالات التفسيرية، لأن ما يعنينا هو الوقوف على مختلف الطروحات المستوحاة من النص القرآني. أما الكتاب المنزل، فسيكون دائما موضوع تأويلات وإعادة تأويلات متواصلة، شأنه في ذلك شأن سائر النصوص المقدسة التي تسعى للحصول على استمرارية وديمومة[9]، وذلك لسببين على الأقل: طبيعته الرمزية، ونظام تمثيله الكتابي. فالقرآن يعرضُ نفسه باعتباره نصا قابلا للتكيف مع جميع الأزمنة والأمكنة، وبالتالي يفتح السبيل أمام تعددية من القراءات بحيث يمكن لأي واحدة منها أن تجد فيه مكانا لها. ثم إن نظام التمثيل الكتابي للنص المنزل أو للعربية نفسها، باعتبارها لغة، يترك حرية للقراءة، بمعنى أن القارئ يستطيع القيام بتجربة المعنى داخل البنية الكتابية. هذه المسألة لا تخص عربية القرآن وحدَها: «فاللغة العبرية لم تكن تكتب في الأصل إلا بالصوامت متيحة بذلك للقارئ حرية إضافة هذه الصوائت أو تلك، والتي، مع إحالتها دائما على الكلمة الإلهية، تمدّ النص بشبكة من المعاني»[10].
2. القرآن والأساطير: أساطير في أصل السحـر
من بين الأساطير التي تساق لتفسير الآية القرآنية المثبتة أعلاه، نختار ثلاثا: الأولى والثانية تحكيان كيف جاء السحر إلى العالم، أما الثالثة، فهي عبارة عن حكاية اعترافية، تروي فيها امرأة كيف تعلمت السحر على يد الملكين هاروت وماروت.
أ. ملكا بابل: هاروت وماروت
يسوق الطبري ثمان روايات لهذه الأسطورة، فيما يسوق لها ابن كثير عشرا، يتضمن السند فيها سلطات دينية كابن مسعود، وابن عباس ومجاهد، وفيما يلي إحدى هذه الروايات:
«حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي ربّ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفرَ وقتلَ النفس الحرام وأكل الحرام والسرقة والزنا وشربَ الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت، فاهبطا إلى الأرض، وجُعل بهما شهوات بني آدم، وأمِرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونُهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمنا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حُسنها في سائر الناس كحسن الزّهرة في سائر الكواكب، وأنها أتت عليهما، فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا، إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنها أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر. فقالا: كل ما ينبغي، وأهونُ الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وَقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يُشفي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك. وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أنَّ من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيه من الخطيئة قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجُعلا في بابل، فهما يُعذبان»[11].
إذا تذكرنا أن الأسطورة حكاية تروي كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، وتعلم اللغة الوصفات الطقوسية القادرة على التحكم في القوى التي تزيح عنها الأسطورة الأقنعة، ومن ثمَّ تشكل، بمحتواها، بنية دائمة ترتبط على هذا النحو بالماضي والحاضر والمستقبل[12]، إذا تذكرنا ذلك أمكننا القول إن حكايتنا لا تروي كيف جاء السحر إلى العالم فحسب، بل وتعرض أيضا صورة لما يجب أن يكون عليه هذا السحر. بهذا المعنى، فإنها لا تقص واقعا فقط، بل وتؤسسه أيضا، ترسم معالم لكيف يجب أن يكون. وكما لا حظ ذلك جيدا إدريس شاه، فإن «أسطورة هاروت وماروت توجد في أساس مجموع السحر العربي»[13]. وإذن فما السحرُ؟ وما كونُ المرء ساحرا؟
السحر أخ لإبليس، إن جاز التعبير، بمعنى أنه لا يكف عن فتنة الناس وتعريضهم للغواية. تجد هذه الفتنة أصلها عند الملكين في امرأة حثتهما على انتهاك النظام الرمزي الذي أقامه الإسلام، وذلك بأشكال ثلاثة: الزنا، شرب الخمرة، ثم الشرك بالله. في الواقع، يطابق كل فعل من هذه الأفعال الثلاثة عددٌ من الآيات التي تحظره. من ذلك مثلا:
- في الزنا: «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا» (الإسراء، 32)؛ «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله...» (النور، 2)؛
- في الخمر: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون» (المائدة، 90)؛
- في الشرك: «إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا» (النساء، 116)؛
وحضور المرأة في هذه الأسطورة ليس من باب الصدفة: فالسحر كان - وسيظل - قبل كل شيء مسألة نساءٍ. سنقف على خبر يجعل من الرسول شهيدا لقي حتفه على يد امرأة، وعلى حكاية تروي كيف تجرأت سيدة أخرى على السفر إلى بابل وتعلم السحر على يد الملكين هاروت وماروت. من جهة أخرى، تحمل المرأة في هذه الأسطورة اسم الزهرة (أي الوردة)، وبتحولها إلى كوكب يحمل الاسم نفسه، ستصير رمزا للجمال، للمتع الحسية، للذة والخلاعة. وتتفق مصنفات السحر العربي الإسلامي على ضرورة إنجاز طقس سحر الحب والتهييج والجمع بين الرجل والمرأة، في ساعة الزهرة[14].
بما أن الملكين نفسيهما وقعا ضحيتين لإغراء خرق النظام الرمزي للشريعة، فإنهما لا يكفان - ولن يكفا مثل إبليس - عن تعريض الناس للفتنة متمثلة في تعليم السحر. وإذن فالساحر هو كل شخص يعقد صلاتٍ مع كائنات خفية، غير مرئية، مجسدة هنا في اثنين من الملائكة، هو شخص يجرؤ على انتهاك القواعد الأخلاقية والاجتماعية للإسلام. وسيستخلص بعض الفقهاء تعريفا مماثلا من الحديث النبوي، إذ يقول «وأما السحر الوارد في الحديث فإن المراد به الأقوال، والأفعال التي تنافي أصول الدين، وتتعارض مع الأخلاق الشرعية»[15]. ويذكر لنا القرآن مثالا عما يتعلمه الناس من الملكين: وسائل زرع التفرقة بين الرجل وزوجته، وهو ما يتعارض كليا مع أمر الإسلام للجنسين من المؤمنين بضرورة الارتباط في إطار مؤسسي يضمن التناسل والتزايد. ألم يتوجه الرسول إلى أتباعه بما يلي: «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة»[16]؟ بالإضافة إلى ذلك، أن يصير المرء ساحرا بعقد علاقات مع قوى غير مرئية، فذلك طريقة في منافسة الرسول؛ أليست سلطة النبي، والغاية من وجوده، ورسالته، هي بالضبط ضمانُ وساطة بين المرئي واللامرئي، بين عالم البشر وعالم الله، بين عالم الإنسان وعالمي الملائكة والجن باعتبارهما فضائين محجوبين عن البشر؟
قبل أن نرى كيف يعلم الملكان الناسَ السحرَ، قد يكون من المفيد عرض الأسطورة الأخرى التي ترى أن للسحر أصلا شيطانيا.
ب. سليمان، الشياطين والسحـر
يورد الطبري سبع روايات لهذه الحكاية (فيما يورد لها ابن كثير ثلاث عشرة) التي تروي كيف أن إبليس استولى على عرش النبي سليمان، لمدة من الوقت، خلالها تمكنت الجن من تدوين وصفات السحر ونقلها لبني الإنسان. فيما يلي إحدى هذه الروايات:
«حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داوود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داوود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبتَ، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل ثناؤه: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا}، فأنزل الله عز وجلَّ عذرَه»[17].
تتقاطع هذه الأسطورة مع سابقتها كما تغنيها بتفاصيل هامة. هكذا، فالسحر والساحـر يكونان دائما في تعارض مع النظام الرمزي الإسلامي. لم يزيف الجن رسالة الله بواسطة السحر فحسب، بل وكذلك أحدثوا خلطا بين الدين والسحر، ألحقوا تشويشا برسالة الله، من خلال إدماجها في السحر والزعم بأنه وحي سليمان. زعمٌ لن يكف عن تهديد النبي محمد إبان نشر دعوته. ألا يعيد القرآن، في مناسبات عديدة، قولة للمشركين يتهمون فيها الرسولَ بأنه مسحور أو مجنون؟ وإذن فالمسألة مطروحة في ذلك المستوى الذي لم يكف الأنثربولوجيون عن مناقشته، ألا وهو مسألة العلاقة بين السحر والدين.
تحدد الأسطورة الحالية أصلا ثانيا للسحر، وهو الشياطين، وبذلك سيحتل السحر الشيطاني مكانة هامة في مصنفات السحر العربي الإسلامي. من جهة أخرى، وتطابقا مع المقطع القرآني الذي يرى أن السِّحر يُنُقل بطريقة التعليم، فإن السحرة العرب سيسوقون في مصنفاتهم وصفات للسحر الشيطاني ليتعلمها بنو الإنسان.
كيف ينقل الملكان معرفتهما السحرية إلى بني البشر؟ يُقدَّم لنا الجواب على شكل قصة اعترافية يمتزج فيها الواقع بالأسطورة على نحو ما كان في أزمنة البدايات، حيث «كان التواصل مع السماء (...) سهلا، وكان اللقاء مع الآلهة يتم في الواقع»[18]. تندم امرأة على فقدان إيمانها، فتسعى إلى التوبة، وتعترف لجماعة المؤمنين بأنها تعلمت السحر على يد الملكين هاروت وماروت، واصفة لهم كيفية ذلك:
ج. أسطـورة في تعلـم السحــر