عمر موسى متهم
عدد الرسائل : 433 تاريخ التسجيل : 14/09/2008
| موضوع: صرخات تحت التراب .. قصة قصيرة الأربعاء أكتوبر 22, 2008 2:52 am | |
|
فنحت عيني فابتلعني ظلام دامس ، استبد بي شعور قاهر ، وخيل لي أني فقدت بصري
رفعت يدي ، لكنها عادت واستقرت في مكانها بخضوع
شعرت بضيق واختناق ، تململت وتحسست ما حولي . أصفاد وقيود تأسرني فيما يشبه الموت
المكان الذي يحتويني ضيق جدا .. وأنا مكبل فيه كالأموات
لماذا لا أكون ميتا ؟ همست لنفسي ، كنت شديد الإعياء حين آويت إلى فراشي ، الناس يتحلقون
بي ، والأضواء ترتعش فوق رأسي .. وهاأنذا مدفون تحت الأرض
قطرات حارة من سائل ما تنساب على وجهي ، أنياب حادة تلسع أصابع قدمي كوخز الأشواك
أجسام صغيرة تحبو تحت قطعة القماش التي تلفني بإحكام
لم لا أكون ميتا ؟ همست لنفسي مرة أخرى
مددت يدي أمام وجهي ، فارتطمت بمادة هشة ، وعادت إلي بخضوع القطرات الغريبة
تحفر وجهي ، والجسيمات الجائعة تنهش أطراف جسمي .. حثالة وتراب ومواد لا أعرفها تتقاطر
في عيني الأصفاد والقيود تقبض أنفاسي
يا إلهي ! من جرأ أن يدفنني في هذا القبر الأحمق ؟ ألا يمكن أن تكون لعبة سخيفة ، أم أنه
الموت البغيض ؟ الهوام والديدان تزحف على صدري ، رائحة خانقة تعبق في أنفي .. خناجر
الألم تحفر أعماقي . لا .. لا يمكن أن أكون ميتا لماذا لا أحفر هذا الغطاء المتكابر فوق رأسي ؟
تحركت أصابعي خلال الفسحة التي تفصل بيني وبين الغطاء .. خدشت الطين الرطب الحار ،
فسرت في أوصالي رعشة محمومة ، وسمعت صوتا ناعما يرن في أذني : لا تعبث بالطين .
أدرت ناظري بيأس مقهور ، وقلت بنبرة مضطربة : أهذا أنت ؟
قال الصوت الناعم : أجل .. أنا التي وهبتك الحياة والحب والموت .
ــ : وهل أنا ميت حقا ؟
ــ : إنك على الخيط الفاصل بين الموت والحياة .
ــ : وما هذا الجحر اللعين ؟
ـ : إنه جحر الذين يبحثون عن الحرية
ــ : ومتى كانت الحرية أصفادا وقيودا ؟
ــ : مقاومة القيود حرية .
ــ : وهل الموت حرية ؟
ــ : منحتك الحرية فأضعتها .
ــ : بالله عليك عن أية حرية تتحدثين ؟
ــ : حرية الخضوع .. الهتاف ، وقرع الطبول .
ــ : الخضوع للأموات ، والحرية للأحياء
ــ : وأنت ميت .
ــ : سأخرج من قبري .. وأضرم النيران .
قهقهت ساخرة ثم قالت : تأبى إلا أن تكون شيطانا .
قلت : وأنت رغم سحرك الفتان .. آثمة طاغية ، ما زلت أذكر قولك : الحرية للشيطان .
قالت : والطاعة من شيم الملائكة
كظمت غيظي ، أحدقت فيها ، لكن نظراتي انحسرت ، وقد اضطرمت بي رغبة مجنونة ، وأنا
أتابع تلك القناة الضيقة التي حفرت على صدرها ، وقد خيل لي أن حريتي تتوقف حين تنحسر
تلك القناة فتنبلج على ضفتيها آثام الحياة بأبهى مفاتنها .
عاهرة ……. صرخت دون ما وعي.. أنت لا تبحثين عن ملائكة ، بل عن كلاب
كلاب تحسن الطاعة ، وتحسن الفتك والنباح .
رمقتني بنظرة عابثة وهي تقول : أنت شيطان بائس ، تحلم أن تكون نبيا ، لكنك في أرقى
الحالات لا تحسن أن تكون أكثر من نصف ملحد .
ــ : تبا لك .. إن الأنبياء أكثر الناس شقاء ، وأنا لا أطمع في شقاء أكثر مما أنا فيه .
ــ : زنديق مكابر .. أراهن أنك تعشق الشقاء.
ــ : بل الشقاء هو الذي يعشقني .
ــ : لم لا تنفضه عن كاهلك وتمضي حيث النعيم ؟
ــ : والجياع من لهم غيري ؟
ضحكت كأنها تهزأ ، ثم تداركت : الجياع ؟ ومن دفنك هنا غير الجياع ؟
ــ : كاذبة .. لم يفعل بي ذلك إلا الكلاب .
ــ : والجياع ماذا فعلو لك ؟ ــ : مغلوب على أمرهم
ــ : أنت أحمق ، لا تقرأ مطاوي النفوس ، هؤلاء الجياع لا يرون فيك إلا شيطانا يثير الفتن ،
ولو عدت إليهم لصوبوا نحوك السهام ، وصلبوك على قارعة الطريق .
مذ رحلت وهم يصبون عليك جامّ غضبهم ، ويقدمون الولاء للكلاب .
حشرجة الموت تفتك بي ، ويدي تنسدل بجواري ساكنة مهزومة ، ظلام دامس يغلف بصري .. رمال قذرة تعبث بعيوني .. أبحث عمن يواسيني على عتبات الموت .
أين أنت يا جلادي ؟
هربت مني الأشياء فلم يبق لي سوى أصفادي وذاكرتي .
أذكر يوم ‘فتحت أبواب المدينة للكلاب .. جفت المياه ، وأنشب الجوع أنيابه . لكن الفزع دفع
الناس إلى الهتاف ودق الطبول .
طافت بضحكتها الجموع الحاشدة ، ثم قالت : يسرني أن أصغي إليكم ؟
قفزت من بينهم وقلت : نريد الخبز والحرية .
ابتسمت بعذوبة وقالت : بل الخبز أو الحرية .
قلت : نريد الحرية .
رد القوم بصوت واحد : الحرية .. الحرية .
قالت وهي تدير ظهرها وتمضي : لكم ذلك .
لم تمض إلا لحظات حتى تدافعت الكلاب الهائجة ، فالتحمت بالجموع الحاشدة . كانت تفتك
بالأطفال والنسوة والشيوخ ،
تراجع القوم وقد ألجمهم الذعر والفزع . صرخت : أيها الناس ، لا بد أن تدفعوا تمن الحرية
اصبروا ، فالكلاب لن تكسب الجولة . سوف ترحل .
وحينذاك يكون الخبز لكم دون منازع .
صاح رجل بالجموع : يا قوم : تريثوا ، فالكلاب لن تؤذيكم ، سوف تمضي في حال سبيلها
و‘تفتح لكم أبواب المدينة . لكن الكلاب اشتد سعارها ، والجموع باتت تخشى سوء العاقبة .
ــ : أيها الحمقى .. سوف تخسرون الحرية والخبز . هتف أحدهم
ــ: : نريد الخبز ، ولا شيء سوى ذلك .. قال آخر
تقهقر الناس ، وانفضت الحشود . صرخت فيهم : أيها الجياع : تريثوا .. سآتيكم بالخبز ،
همت على وجهي . على أبواب المدينة بعت قميصي وحذائي ، ابتعت كثيرا من الخبز ، عدت
فألقمت الأفواه الجائعة . هتفوا لي . صحت فيهم : لا أطمع في الهتاف . أريد أن تتمسكوا
بالحرية وأن تصبروا . خمد جوعهم فدبّت الحياة في عروقهم ، هتفوا بصوت واحد : لن نتخلى عن الحرية .
تدافعوا كالطوفان ، وعلى أبواب المدينة برزت لهم الكلاب . كانت هائجة مائجة . نبحت :
أيها الأوغاد : ماذا حلّ بكم ؟ قالوا بصوت واحد : نريد الحرية ؟
‘فتحت أبواب المدينة . تدافعت الكلاب من كل صوب . تخطفت بقايا الخبز من أفواههم ،
أعملت الأنياب في جلودهم ، نزفت الدماء ، فدبّ فيهم الوهن والضعف .
قذفوني بنظرات عاتبة : أنت السبب . لعن الله …
حاولت أن أقول شيئا ، لكني لاحظت الجموع تتضاءل ، والكلاب تطغى ، بل خيل لي أن الناس
باتوا يخلعون ثيابهم ، ويرتدون جلود الكلاب .
انفض القوم من حولي ، وبرزت لي من ضباب هزيمتي .
عيناها تفترسني ، ومضات حب آثم تجذبني ، قالت : اتبعني
قلت : أحبك ، كم أنت رائعة ، لكنك لا ترحمين .
قالت : بل أنت المكابر ، لم أطلب منك سوى أن تكون كلبا ، فأهبك نفسي .
ــ : أفضّل أن أكون صرصارا على أن أكون كلبا .
ــ : أيها الأحمق ، لن تكون كلبا عاديا ، بل سيدهم .
ــ : لا أطلب السيادة ، بل الحرية ، حرية الجياع .
صرخت بالكلاب : خذوه .. قذفوا بي على عتبة بيتي وأنا أعاني لهاث الموت ، وخيط الرجاء
انقطعت خيوط الذاكرة ، فعاد إلي قبري ، أشعر بضيق واختناق حتى الموت .
حركت يدي وطفقت أحفر الغطاء الطيني .
قطرات السائل الحار تنهمر على وجهي ، الحشرات والديدان تنهش شرائح لحمي ، الركام والتراب
يتهاوى .
شعرت بلزوجة تسري في عظامي ، ورائحة نتنة تفغم أنفي . أظافري الممزقة تعبث بالغطاء .
والطين ينشق بصعوبة . صممت أن أمضي في المقارعة حتى الرمق الأخير .
من يدري ؟ فربما أزحت هذا الغطاء قبل أن تنفذ روحي .
نبضات الحياة تخبو ، والضيق يفتك بي ، لكني مضيت أحفر على غير هدى .
كميات هائلة من التراب تنهال على رأسي . الحفرة تضيق من حولي لكنها تمتد إلى الأعلى .
تململت ورفعت رأسي بحذر ، فشعرت براحة غامرة ، رغم أن نصفي الأسفل ما زال مدفونا
في الطين .
الغطاء يتمزق ، ورأسي تترنح في ظلمة تكاد أن تخلو من الهواء ، لكن الخدر ينداح عني قليلا
شعرت بتيار بارد يلفح وجهي .
مددت يدي بحرية ، وحركت رأسي خلال الفجوة الضيقة ، ثم سحبت نصفي الأسفل من
الركام والأنقاض .
تنفست الصعداء ، وحركت جفني . لكني لم أشاهد شيئا .
رفعت رأسي إلى الأعلى ، فلمحت شعاع النجوم يخفق في كبد السماء ، أدركت أني تأخرت
وأن الليل قد هبط مرة أخرى
| |
|